يُعد علم التجويد من أشرف العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم، إذ به يُصان اللسان من الخطأ في كتاب الله، وتُؤدى التلاوة على الوجه الذي أُنزل به.
ومن الأبواب المهمة التي تناولها الإمام ابن الجزري – رحمه الله – في منظومته "المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه" باب النون والميم المشددتين وأحكام الميم الساكنة.
إذ خصّ النون والميم المشددتين ببيان عظم الغنة فيهما، ثم أتبع ذلك بشرح أحكام الميم الساكنة من إظهار وإدغام وإخفاء، مبينًا بذلك كيفية النطق السليم لهذه الحروف حتى يتحقق الإتقان في التلاوة.
إتقان التلاوة: أحكام النون والميم المشددتين والميم الساكنة في متن الجزرية
للنص القرآني خاصيتان من حيث الصوت:
1- الخاصية الأولى إطالة المدود: روِيت لنا بعض المدود مطولة عن حدها الطبيعي.
2- الخاصية الثانية إطالة الغنن: فهي كالمد لها قابلية التطويل والزيادة ورويّت لنا في النون والميم المشددتين بغنة مطولة مضبوطة بزمن يتناسب مع سرعة التلاوة (تحقيق؛ حدر، تدوير) وميزان الغنن يُضبط بالمشافهة ولا يقاس بالحركات.
النون والميم المشددتان
قال الناظم؛ رحمه الله:
يجب على القارئ إظهار صفة الغنة عند النطق بنون أو ميم مشددتين وذلك بتطويل الغنة فيهما أكمل ما تكون وصلًا ووققا، نحو: (مِنَ الجِنَّةِ والنَّاس) (وَلكنَّ الله سَلَم) (حمَّالة الحطَبِ) (فَأَلْقيهِ في الْيمِّ).
فائدة لغوية
- إذا ما شدّدا: ما: زائدة للتوكيد (زائدة من حيث الإعراب لكنها جاءت لتأكيد المعنى).
- وقد عدّ الإمام ابن الجزّري؛ رحمه الله؛ في هذا البحث الغنة صفة لحرفي النون والميم.
- والمقصود بكونها صفة: من حيث مقدار تطويلها؛ (وأظهر الغنة من نون ومن ميم إذا ما شددا...).
- وأما الغنة من حيث المخرج: فإنها النصف المكمّل للنون والميم؛ بمعنى أنها جزء من صوت الحرف ولها مخرج مستقل (وغنة مخرجها الخيشوم).
الغنة
الغنة: كما ذكرنا سابقًا في باب الصفات هي:
صوت يخرج من الخيشوم (التجويف الأنفي)؛ وتكون مصاحبة للنون والميم في كل أحوالهما: (الساكنتين والمتحركتين المظهرتين؛ والمدغمتين والمخفاتين) إلا أن طولها يختلف بحسب وضعها.
أزمنة الغنن
أزمنة الغنن:
لأزمنة الغنن أربع مراتب:
1- أكمل ما تكون: في النون والميم المشددتين والمدغمتين.
2- كاملة: في النون والميم المخفاتين وفي القلب.
3- ناقصة: في النون والميم الساكنتين المظهرتين.
4 أنقص ما تكون: في النون والميم المتحركتين.
تنبيه
- يبقى التناسب بين أزمنة الغنن مُتحققًا مهما كانت سرعة القراءة من تحقيق أو تدوير أو حدر. فميزان الغنن ميزان مرن يتناسب مع سرعة التلاوة. فالنون المشدّدة في التحقيق مثلًا أطول زمنًا من النون المشدّدة في التدوير.
- ضبط أزمنة الغنن بحركات الأصابع خطأ وغير دقيق؛ وهذا من عمل المتأخرين؛ ولعله من باب التسهيل على المبتدئين.
أحكام الميم الساكنة
الميم الساكنة: هي الميم التي لا حركة عليها، وسكونها ثابت وصلًَا ووقفا.
خرج من التعريف الميم المتحركة والمشدّدة. ولها ثلاثة أحكام:
1- الإدغام الشفوي 2- الإخفاء الشفوي 3- الإظهار الشفوي.
نُذَكِّر بالقاعدة اللغوية
- الأصل في التقاء أي حرفين الإظهار.
- (كل عدول عن الإظهار إلى غيره [إدغام ؛ إخفاء ؛ قلب ...] هو عدول إلى الأسهل)
1. الإدغام الشفوي
لم يتكلم ابن الجزري في هذه الأبيات على الإدغام لأنه داخل ضمن الإدغام المتماثل:
(وَأَوَّلَيْ مِثْلٍ وَجِنْسٍ إِنْ سكن أَدْغِمْ) إذا جاء حرفان متماثلان الأول ساكن والثاني متحرك وجب الإدغام؛ وكذلك إذا التقى ميمان الأولى ساكنة والثانية متحركة وجب الإدغام.
الإدغام
الإدغام؛ لغة
الإدغام؛ لغة: الإدخال. تقول العرب: أدغمت اللّجام في فم الفرس، أي أدخلته في فيها.
وتقول أيضًا: أدغمت السيف في غمده.
اصطلاحًا
اصطلاحًا: إيصال حرف ساكن بحرف متحرك بحيث يصيران حرفا واحدًا مشددًا من جنس الثاني يرتفع عنه المخرج ارتفاعةً واحدة. وذلك أسهل في النطق وأخف على السمع.
الإدغام الشفوي
تُدغم الميم الساكنة إذا أتى بعدها حرف واحد وهو الميم مع تطويل الغنة أكمل ما تكون ولا يكون الإدغام هنا إلا بين كلمتين؛ نحو:
لماذا سمِيٌٍ شفويًا؟
وسمِيٌٍ شفويًا: لخروج الميم من الشفتين ولتمييزه عن إدغام النون الساكنة في حروفها.
ما هي علامة إدغام الميم الساكنة؟
علامة إدغام الميم الساكنة في ضبط المصحف: تجريدها من السكون وتشديد الحرف التالي.
2- الإخفاء الشفوي
الإخفاء؛ لغة
الإخفاء؛ لغة: الستر.
اصطلاحًا
اصطلاحًا: هو النطق بحرف بصفة بين الإظهار والإدغام؛ عار عن التشديد؛ مع بقاء الغنة في الحرف الأول.
ما معنى (صفة بين الإظهار والإدغام)؟
1- فمعنى (صفة بين الإظهار والإدغام): أي فيه شبهٌ بالإظهار وشبهٌ بالإدغام؛ كما فيه مخالفة لهما.
- يشبه الإظهار بأن: صوت الميم مستقل عن صوت الباء تمام الاستقلال (نطبق الشفتين على ميم ونجافيهما عن باء)؛ ويخالفه بأن المخرج يرتفع ارتفاعة واحدة عن الميم والباء.
- ويشبه الإدغام بأن: المخرج يرتفع عن الميم والباء (الحرفين) ارتفاعة واحدة؛ ويخالفه بأن صوت الميم مستقل تمامًا عن صوت الباء (نطبق على ميم ونجافي عن باء).
ما معنى (عار عن التشديد)؟
2- ومعنى (عار عن التشديد): (التشديد هو أن يتحول صوت الحرف الأول إلى الثاني)، فعار عن التشديد أي لا دمج بين صوت الميم وصوت الباء؛ أي يبقى صوت الحرف المُخفى مستقلًا عن صوت الحرف المُخفى عنده.
ما معنى (مع بقاء الغنة في الحرف الأول)؟
3- ومعنى (مع بقاء الغنة في الحرف الأول): أي يبقى صوت الغنة مع الحرف المُخفى (الميم) ولا تكون مع صوت الحرف المُخفى عنده وهو (الباء)، نحو: (تَرْميهم بِحِجَارَةٍ).
وَأَحْفِينْ الميم إن تسكن بغنة لدى باء:
الإخفاء الشفوي
تُخفى الميم الساكنة إذا جاء بعدها حرف واحد وهو الباء في نحو:
لماذا سميّ شفويًا؟
وسميّ شفويًا: لأن الميم والباء تخرجان من الشفتين.
ما هي علامة إخفاء الميم الساكنة؟
علامة إخفاء الميم الساكنة في ضبط المصحف: تجريدها من السكون مع عدم تشديد الحرف التالي.
كيف تؤدى؟
- كيفية الأداء: عند النطق بالميم المخفاة نطبق الشفتين على بعضهما دون مجافاة (فرجة) ولا كز (ضغط شديد).
- ولقد نهى علماؤنا عن الثقل والتعسف فقالوا: (فليُسَكّنِ الميم بتلطف من غير ثقلٍ ولا تعسف).
هل نقراً بإبقاء فرجة بين الشفتين أو بعدمها؟
بحث الشيخ أيمن رشدي سويد في هذا الأمر وعاد إلى كبار قرّاء هذا الزمان فوجد أن القراءة بعدم الفرجة أولى كما تلقّى عن أئمة الإقراء وبعد مراجعة النصوص المكتوبة لمصنفي هذا العلم.
على المختار من أهل الأدا
على القول المختار من أهل الأداء (وحُذفت همزة الأداء للوقف). معناه: أن معظم الأئمة قد قرؤوا بالإخفاء الشفوي واختاروه رواية وبعضهم لم يقرأ به. وذكر بعض الأئمة كالإمام مكي بن أبي طالب القيسي والإمام ابن المنادي، رحمهما الله؛ إظهار الميم عند الباء لكنه قليل الورود.
3- الإظهار الشفوي
الإظهار، لغة
الإظهار، لغة: البيان.
اصطلاحًا
واصطلاحًا: إخراج كل حرف من مخرجه من غير زيادة في الغنة.
وَأَظْهرَنْها عِنْدَ بَاقِي الأَحْرُف
الإظهار الشفوي
الإظهار الشفوي: تُظهرْ الميم الساكنةُ إذا أتى بعدها حرف من حروف الهجاء، إلا الميم والباء؛ ويكون في كلمة؛ نحو: «(أنْعَمْتَ» وفي كلمتين؛ نحو: (هُم فِيهَا) (لَعَلَّكُم تَتَفُونَ).
ما هي علامة إظهار الميم الساكنة؟
علامة إظهار الميم الساكنة في ضبط المصحف: وضع رأس الخاء من غير نقطة فوق الميم (ح).
واحذر لدى واو وفا أن تختفي
يُنبه الناظم إلى الحذر من إخفاء الميم الساكنة عند الواو أو الفاء، نحو: (يَعْلمُ ما بَينَ أَيْدِبهمَ وَمَا خَلْقَهُم وَلا يُحيطُون) (هُمْ فِيها).
ما سبب التحذير؟
وسبب التحذير: لاتّحاد مخرج الميم مع الواو؛ وقربه من الفاء.
الميم لا تُخفى عند الواو حتى لا تشتبه بالنون المدغمة في الواو. يقول بعض المعاصرين تكون الميم أشد إظهارًا عند الواو والفاء؛ وهذه العبارة غير صحيحة وغير دقيقة؛ إذ لا يوجد ما يُسمى أشد إظهارًا؛ وإنما الحذر من إخفائها.
أبرز الأخطاء التي تحدث عند نطق الميم الساكنة
1- إطالة زمن الغنة زيادة عن المطلوب عند إظهارها، نحو: (أنْعَمْتَ).
2- تقصير زمن الغنة عند إدغامها أو إخفائها، نحو: (لكُم مَا)، (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ).
3- ترك فرجة بين الشفتين عند إخفائها، وهو أمر مُحدّث؛ نحو: (تَرْمِيهم بِحِجَارَةٍ).
4- إخفاؤها عند الواو أو الفاء؛ نحو: (عَلَيْهِمْ ولا)، (هُمْ فيهَا).
لماذا للميم الساكنة والنون الساكنة والتنوين أحكامٌ دون غيرها من الحروف؟
لأن مخرج كلّ من النون والميم يتكون من جزأين فموي وخيشومي. فأمًّا الميم فجزؤها الفموي هو الجزء الشفوي؛ وأمَّا جزؤها الخيشومي فهو الغنة؛ وأمًا النون فجزؤها الفموي هو الجزء اللساني وأمًا جزؤها الخيشومي فهو الغنة.
فكانت العرب عند نطق هذين الحرفين تُبطل الجزء الفموي عند بعض الحروف وتبقي الجزء الخيشومي وذلك أسهل عليهم في النطق.
ختاما
إن أحكام النون والميم المشددتين، وأحكام الميم الساكنة من إظهار وإدغام وإخفاء، تعد من الأسس الجوهرية في علم التجويد، ولا يستقيم أداء التلاوة إلا بضبطها على الوجه الصحيح.
وقد اعتنى العلماء بهذا الباب عناية خاصة لما له من أثر في تحسين التلاوة وحسن الأداء. ومن يحرص على إتقان هذه الأحكام، فإنه يقترب من التلاوة الصحيحة التي تليق بكلام الله تعالى، ويزداد خشوعه وتدبره للقرآن الكريم.
شرفنا بوضع تعليقك هنا، وعند أي استفسار سيتم الرد عليك بأسرع وقت ممكن بإذن الله.